الحروب الحديثة- تحولات في الاستراتيجيات، التسليح، وإدارة النصر الوهمي

المؤلف: محمد الساعد09.03.2025
الحروب الحديثة- تحولات في الاستراتيجيات، التسليح، وإدارة النصر الوهمي

في أعقاب حرب الخليج الثالثة، تظل المنطقة الشرق الأوسط مثقلة بكمٍ هائل من النتائج وعلامات الاستفهام التي لن تبرحها لسنوات مديدة، ولعل أبرز ما يميز هذه الحقبة هو أن الحروب لم تعد تنتهي بالاستسلام التقليدي أو رفع الراية البيضاء، فآخر استسلام شهده العالم كان في خيمة صفوان إثر هزيمة الجيش العراقي في حرب تحرير الكويت أمام قوات التحالف، ومن المحتمل أن تمر سنوات طوال قبل أن نشهد استسلامًا مماثلًا.

وفي خضم الصراع الأخير بين إسرائيل وإيران، تطفو على السطح تساؤلات جمة لا تجد إجابات شافية، بيد أن هناك دروسًا مستفادة جمة ستتبناها الدول، وستعيد تشكيل ملامح الحروب القادمة، وتغير من معادلات وأولويات التسلح لعقود مديدة قادمة.

فعلى الرغم من قدرة الجيش الإسرائيلي على التحليق في سماء إيران على مدار أسبوعين كاملين، إلا أن الطائرات المسيرة والصواريخ العابرة للقارات قد حلت محل الطائرات المقاتلة التقليدية مثل الرافال والميغ والـF-14، وربما تقلل من تأثيرها في المستقبل، أو تجعلها ذات أولوية ثانوية في منظومة التسليح الحديثة.

علاوة على ذلك، فإن تطوير منظومات الدفاع الجوي المتطورة، ومضادات الصواريخ البالغة الدقة، سيشكل أولوية قصوى في المستقبل القريب؛ إذ إن الأثر الإعلامي لسقوط صاروخ واحد على حي سكني مكتظ بالسكان يفوق بدرجات سقوطه على قاعدة عسكرية، ومع إطلاق مئات الصواريخ مصحوبة بآلاف الطائرات المسيرة، يزداد التحدي تعقيدًا أمام الدول، وسيجبر الجيوش المتقدمة على ابتكار تقنيات مبتكرة وغير مسبوقة للتصدي للهجمات الصاروخية المتزايدة.

ولكن الأهم من كل ذلك، في اعتقادي الراسخ، هو ترسيخ فكرة الانتصار في الوجدان الشعبي: فلم يعد جميع الأطراف مقتنعين بفكرة الخسارة المطلقة، بل إن إدارة تحقيق النصر إعلاميًا وسياسيًا أصبحت أكثر أهمية من تحقيقه فعليًا على أرض الواقع. ولعل هذا السؤال سيظل محور نقاشات مستفيضة ومطولة، ولن يتمكن أي طرف من إقناع الطرف الآخر بالهزيمة أو الانتصار الحقيقي.

لقد شهدت أساليب الحروب تحولًا جذريًا، وأصبحت تُدار سياسيًا عبر النقاشات الدبلوماسية والوساطات المكثفة، مع تقديم التضحيات والتنازلات المتبادلة. بل إن الوسطاء أنفسهم يقبلون ببعض التضحيات الطفيفة ليحصدوا شيئًا من مكاسب المعركة، ثم تنفذ تفاصيل الاتفاق على الأرض من خلال قصف متبادل أو ضربات جوية منسقة. وستظل العديد من الاتفاقات حبيسة الأدراج وسرية، طالما أنها تحقق للقائمين على المشهد مصالحهم الاستراتيجية، وسيتركون للشعوب أن تصوغ وجدانها الجمعي وتحقق أفراحها الخاصة، حتى وإن كانت هذه الأفراح زائفة أو غير حقيقية.

إنه تحول عميق وعملي في أساليب الحروب الحديثة، فلم تعد الضربة الجوية الخاطفة قادرة على إحداث الاستسلام الفوري وإلحاق الهزائم الساحقة بالجيوش كما حدث في حرب 1967 بين دول الطوق وإسرائيل، التي مُنيت بهزيمة مدوية في الساعات الأولى من القتال.

لا شك أن العديد من التساؤلات ستثار داخل أروقة السياسيين وصناع القرار، ولكن أكثرها أهمية داخل المؤسسات العسكرية في المنطقة ستكون: هل هم بحاجة إلى إعادة تقييم طريقة التسليح المتبعة؟ وعلى أي الجوانب يتم التركيز في المستقبل المنظور؟ وأي أنواع الأسلحة هي الأكثر تأثيرًا في حسم المعارك؟

هل الطائرات المقاتلة ذات التكلفة الباهظة، أم الصواريخ العابرة للقارات، أم الطائرات بدون طيار (الدرونز) خفيفة الحركة ومنخفضة التكلفة؟ وهل الجيوش بحاجة إلى الاشتباك المباشر على الأرض كما كان معهودًا في الحروب التقليدية السابقة أم لا؟ وغالبًا ما سيبقى هذا السؤال يؤرق صناع القرار العسكري والسياسي لسنوات طويلة.

لقد أثبتت التجارب المريرة في أوكرانيا وغزة -على سبيل المثال لا الحصر- أن الاشتباك المباشر بين القوات المتناحرة لم يسفر عن انتهاء المعارك الطاحنة، ومع مرور ثلاث سنوات على الحرب في أوكرانيا وسنتين على الصراع في غزة، لا تزال الاشتباكات العنيفة قائمة، لأنها تعتمد بشكل أساسي على الإنسان، والإنسان بطبيعته لا يفنى.

كما أن قواعد الاشتباك الجديدة التي فرضتها الحرب الأخيرة، تؤكد أن الحروب لم تعد تشن من أجل تحقيق الانتصارات الحاسمة فقط، بل لتحريك الملفات العالقة، وتطويق الأخطار المحدقة دون الحاجة إلى رفع الرايات البيضاء، ودون إزاحة الأنظمة الحاكمة أو استبدالها بأنظمة أخرى.

وأصبح من الضروري عند خوض أي معركة أن تمنح خصومك بعض الانتصارات التكتيكية هنا وهناك، وأن تتبادل معهم النتائج الميدانية، وأن يتم الاتفاق مسبقًا على مناطق القصف قبل بدء العمليات العسكرية، وذلك لتحقيق مكاسب سياسية وشعبية ملموسة، هذه هي حروب القرن الحادي والعشرين التي لم تعد تشبه بأي حال من الأحوال أي حروب مضت.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة